الأحد، 29 يوليو 2018

طربوش أبويا

طربوش أبويا




"كريم...اعدل طربوشك شوية ..دي مش وجاهة أفندي ابداً" قالها أبي فجأه مخترقاً حالة السلام الداخلي التي استغرقت ساعات للوصول اليها
فانفجرت الخلايا العصبية داخل عقلي تتصارع في إيجاد أسوأ ما يمكن أن يقال رداً على هذه الكلمة ولكني عوضاً عن ذلك قررت أن أبتسم ابتسامة باردة كتلك التي يبتسمها السياسيون في معاهدات السلام الوهمية ثم ذهبت الى غرفتي القديمة بمنزله أفكر ..
لماذا لم أتخلى عن هذا الطربوش السخيف كل هذه المدة..
كلما أنظر يومياً في المرآة قبل خروجي من المنزل أجد هذا المخروط الناقص الأحمر اللون فوق رأسي وهو يتدلى منه تلك الخيوط الحريرية السوداء..يا لسخافة مظهره..
***
كنت قد قضيت ثلاثة عشر عاماً من عمري أتعلم فيها كيفية تجميع الخيوط يدوياً لصناعة القماش حتى صنعت أول قطعة قماش يدوية الصنع بعد تعب و شقاء لأصل الى مرحلة اتخاذ القرار الصعب
ما الذي ستكون عليه تلك القماشة؟؟
"طربوش" أتذكر صوت أبي عندما قال لي تلك الكلمة منذ خمسة عشر عاماً ... قلت له وقتها "زمان الطرابيش انتهى يا والدي"
ولكنه قال" الطرابيش رمز للأصالة و الوجاهة الإجتماعية..يا ابني كل بشوات مصر الكبار بيلبسوا طرابيش و انت يابني مش أقل منهم في حاجه"
"واذا كنت أنا اصلاً من الأساس يا والدي شايفهم مجانين ومش مقتنع اني أحط البتاع ده على راسي اصلاً"
غضب أبي من ردي و قلب شفته السفلى بإشمزاز ثم قال " اخص عليك ولد عديم الربايه صحيح.. انت ناسي ان الطربوش ده انا بلبسه طول حياتي لحد ما كبرتك
و خليتك أفندي كبير وبقيت تعرف تصنع قماش لنفسك"
محاولاً ان أسعف الموقف " لكن يا بابا انا مش ممكن أقصد اني اتكلم عن حضرتك بإسلوب بذئ أو سئ ، كل ما في الأمر اني كنت حابب اني أخوض حياتي بلبس مختلف مش بنفس الهيئة اللي كنت على طول بتظهر بيها"
-"واللهِ عال يا ولد.. دلوقتي كمان هيئتي مبقتش عجباك"
-"العفو يا بابا.. أنااااا"
-"بقا اسمع اما أقولك هي كلمة ومش هتنيها.. هتلبس طربوش يعني هتلبس طربوش"
-"لكن يا بابا الطربوش اتلغى من أيام الثورة يعني من أكتر من 5 سنين..ده حتى البوليس دلوقتي مبقوش يلبسوه"
-"يا ابني انا مش هعيشلك العمر كله.. و شعري اللي شاب ده مش من فراغ.. ده شعر راجل لف و شاف في الدنيا كتير.. هتعمل ايه بحتة قماشة لسه صغيره بالحجم ده.. هتعملها شراب ومحدش يشوفها ولا يعرفها وانت لابسها ولا عايز تعملها (برنيطه) و تلبسها على الشط زي العيال الخنافس"
-" أنا مش فاهم ايه علاقة الخنافس بالبرانيط اصلاً يا بابا بس أنا مش حابب فكرة الطربوش.. خنقة على الراس كده و ملوش معنى "
-"كفاية يا ابني ان راسك تبقى متدفيه في برد الشتا.. غيرك ميحلمش اصلاً يلبس الطربوش ده.. انت عارف (فابريقة) الطرابيش بتنتج كام طربوش في السنة وفيه كان واحد عايز طرابيش..تخيل بقا انك انت هتعمل الطربوش ده من القماشه اللي عملتها طول حياتك"
-"بالظبط..ما نسيب بقا الناس تروح تجيب الطرابيش اللي بتحبها.. وماخدش انا بقا مكان واحد كان واقف مستني و بيحلم بالطربوش ده"
-"يا ابني اسمع بس الكلام. احنا هنروح كفر الشيخ للورشة هناك ..و هنديلهم القماشة... ولما يبقوا يعملوها طربوش .. ابقا شوفه .. لو عجبك كان بقها..معجبكش...نبقى نفكه تاني و نرجع قماشتك تاني.."
"اللي تشوفه يا والدي"
*******
لم يمر يوماً بعمري لا أتذكر فيه ذلك اليوم المشئوم يوم ارتديت الطربوش للمرة الأولى على رأسي .
نظرة الفخر على وجه أبي ..دموع أمي..وشعوري بإني على وشك دخول تجربة مختلفة ، فقد مرت ثلاثة أعوام كاملة منذ اخر مره لبس الناس الطربوش في شوارع القاهرة
تحملت نظرات السخرية و الإستهزاء في جميع الشوارع و الميادين من معارضي الطربوش و الذين رأوا فيه عودة لنظام الملكية بعد ثورة 52 المجيدة
ونظرات الفخر ممن أيده كشكل فلكلوري حضاري للمصريين متناسيين ان الطربوش اصله تركي!!
كلما رغبت في كل يوم أن أخلع ذلك الطربوش يفاجئني أبي بأنه يليق بي و اني سأعتاد عليه.
بعد فترة من الزمن بتلك الدوامة كنت قد تعودت على شكلي بالطربوش..مازلت لا أفضله و لكنيي اعتدت عليه ، تماماً مثل صديقك الذي يلبس نظارته الطبية للمرة الأولى فتشعر ان شكله غريب ثم تعتاده مع الوقت و إن كنت مازلت تفضل شكله القديم الأكثر صحة.
عامين..و ثمانية أشهر ... و أربعة أيام تلك هي المدة التي ظللت مرتدياً فيها الطربوش و أنا أعطيه فرصة لأرضي رغبات أبي وهو يستمر يومياً في مضايقتي حتى أتى اليوم الذي فاجأني فيه احد الماره
-"تسمح يا أخينا لو سمحت"
-"حضرتك تقصدني أنا "
-"بالتأكيد أقصدك انت .. مفيش حد غيرك واقف قدامي"
-"أقدر أساعدك ازاي؟"
-"مبروك باشا أول ما شافك لابس الطربوش فضل متابعك من فتره و قالي أندهك قوام علشان عايزك في كلمتين"
-"مبروك باشا مين..؟!!"
-"حد برضه يا أفندي مش عارف حسن باشا مبروك.. صاحب مصنع الطرابيش على العموم هو هيكون منتظرك في العنوان ده النهارده الساعه 10..
وهكون ممنون جداً لو بلغت أهلك انهم معزومين معاك"
قالها وهو يعطيني كارت به إسم الباشا و رقم التليفون و العنوان ..
ذهبت الى العنوان و انتظرت بضعة دقائق في الصالون حتى نزل الباشا من على السلالم و هو يقول "سعيده عليك يا كريم أفندي..يادي النور..نورت السرايا"
رددت تحيته بأفضل منها ثم سألته" أقدر أعرف حضرتك كنت عايزنا في ايه؟"
-"بقا شوف يا كريم.. أنا زي ما انت عارف صاحب فابريقة الطرابيش الوحيدة اللي في مصر. خاصة بعد الحريق اللي صاب الورشة في كفر الشيخ..
وزي ما انت عارف برضه الناس بطلت تلبس طرابيش و الورش عندي بتقفل و العمال هيتشردوا"
نظرت لأبي نظرة طويلة وكأني أقول له "اذا كان صاحب مصنع الطرابيش بيقول محدش بقا بيلبسها" ولكنى لم أستطع قولها حتى لا أسبب احراج للباشا
فقلت و قد بدأ الفضول ينال مني"طبعاً عارف يا باشا..لكن أنا ايه شأني بموضوع زي ده"
-"شأنك انك هتبقى الواجهة الدعائية للمصنع..كل المطلوب منك انك متقلعش الطربوش و تمشي بيه في شوارع البلد كلها"
-"وانا ايه اللي يخليني أقبل بوضع زي ده؟!"
-"الفلوس بس أنا مش هقولهالك صريحةً كده.. أنا هقولك انها علشان نرجع شكل من أهم أشكال الفلكلور المصري .. يعني علشان خاطر مصر"
-"لأ اذا كان علشان خاطر مصر..وفيه قرشين كويسين.يبقى أنا موافق طبعاً "
-"جميل يبقى نمضي الكونتراتو بس الأول لازم تعرف حاجه...مدة العقد 24 سنة و أنا هحسبلك منهم الثلاث سنين اللي لبست فهم الطربوش قبل كده يبقى 21 سنة"
-"أيوه يا باشا بس ده كتير أوي"
-"متقلقش...هيعدوا هوا..المهم انك متقلعش طربوشك ابداً خلال ال21 سنة دول.."
"موافق"
-"تحلف على الكلام ده..."
-"أحلف"
-"طب قول ورايا.. أقسم بالله العظيم"
-"أقسم بالله العظيم"

-"أقسم بالله العظيم" -"أقسم بالله العظيم"
-"أقسم بالله العظيم" -"أقسم بالله العظيم"
-أنا أكون مخلصاً لبنود العقد
-"أن أكون مخلصا لبنود العقد
-" مطيعاً لأوامر الباشا الكبير"
-"مطيعاً لأوامر الباشا الكبير"
-"محافظاً على طربوشي"
-"محافظاً على طربوشي"
-"لا أخلعه قط"
"لا أخلعه قط"
-"والا اخالف العهد"
"والا أخالف العهد"
-"والله على ما أقول شهيد"
-"والله على ما أقول شهيد"
***********
مضت عشرة سنوات .. يضيق فيها طربوشي على رأسي يوماً بعد يوما تعرفت فيها على شباب أخرى مثلي عملوا جميعاً في مجال الدعاية لمصنع الطرابيش..
اكتشفت اني لسه الوحيد الذي يكره الطربوش ،الكثير منا يكرهه و مجبر على ارتدائه ، واخرين أحبوا شكلهم به وفخورين به كل الفخر.
مازلت لا أطيق ارتداء الطربوش ولكني وجودي وسط هؤلاء سهل عليَ لبسه خاصة بعد أن أدركت انه مصدر رزقي الوحيد الحقيقي فأنا لم أدخل الجامعة ، ولا اعرف عملاً حقيقياً سوى عملي.
أضعت شبابي في الحملات الدعائية لمصنع الطربوش في كل جمهورية مصر العربية
أعرف ان الاف البشر يتمنون ما أنا فيه ، ولكنهم جميعاً لا يدركوا مدى ضيق الطربوش وانه ليس خفيف الوزن على الرأس كما يظنون ، لذا كلما اشتكت رأسي ضيق وثقل الطربوش صاح الجميع في وجهي " يا اخي احمد ربنا على اللي انت فيه.. هو حد طايل منظر إجتماعي ووجاهة و كمان مرتب ثابت"
مازال هناك أكثر من عشرة سنوات أخرى على نهاية العقد ورأسي أنا من يشعر بالضيق وليس أنتم...لا لن أترك عمري يضيع هباءً وأنا مرتدياً هذا الطربوش السخيف الذي لم يكن يوماً يليق بي.
ذهبت الى أبي الذي كان السبب الأول في ارتدائي لأسخف غطاء رأس ارتديته في حياتي ودار بيننا الحوار الاتي...
-"سعيده يا بابا"
-"سعيده عليك يا ابني..شكلك مبسوط و معاك أخبار عال"
-"الحقيقة يا بابا..أنا هكون مبسوط لو وافقتني على القرار اللي أنا أخدته النهارده"
-"قرار ايه يا ابني"
تلعثمت قليلاً و أنا أقولها "بابا....أأأ أنا قررت ..انيييااا ...انا لازم أقلع الطربوش"
-"هو انت كل ما هتجيلي يا ولد هتفضل تشكيني همومك انت و طربوشك"
-"مهو الحقيقة يا بابا انك وانا اسف يعني انت السبب"
-"السبب في ايه ؟! اني حبيت أعمل منك أفندي محترم و بتلبس محترم و مظهر ووجاهة اجتماعية "
لأول مره ارتفع صوتي و أنا أرد على والدي قائلاً " ضيق..الطربوش ضيق.. طرابيش زمان مش زي طرابيش دلوقتي..أنا مجبر اني استحمل الطربوش ده على الأقل عشر سنين كمان و طبقاً للعقد لازم استحمل أي تعديل يتعمل في هيئة الطربوش يطولوه بقا يتقلوه يضيقوه...لازم أستحمل و الا العقد يتلغي..وعلى ايه ده كله"
-"انت اللي على طول متدلع و مفيش حاجه بتريحك .. يا ابني ارضى باللي ربنا كتبهولك علشان ربنا يباركلك"
-"الدم مبقاش يوصل لمخي..على طول في صداع و مش عارف أعيش ..كل أحلام حياتي بتدمر بسبب الطربوش"
-"اوعى تكون فاكر اني مكنتش بحس الأحاسيس دي كلها اول ما لبست الطربوش زمان.. بس رضينا بيه و استحملناه زي الرجاله"
-"ولما حضرتك عارف كده !! ليه عملت فيا كده... تسمحلي يا بابا ... انا مش هكمل في مهذلة الطربوش دي.. أنا هقلع الطربوش حالاً و قدامكم هنا"
رفعت يدي في اتجاه رأسي متوقعاً ان يمنعني أبي بطريقة أو بأخرى ولكن هذا ما لم يحدث ، لعله أدرك أخيراً اني كنت على حق.. أو أدرك انه لا مجال لأن يقنعني بوجهة نظره ، أو انه يحاول أن يحافظ على ما تبقى من عقلي قبل أن أصل لمرحلة المرض النفسي .مرت الثواني بطيئة و أنا أمسك الطربوش من فوق رأسي ..ها هي اللحظة التي انتظرتها لسنوات ، أخيراً سأنزع الطربوش من فوق رأسي و سألحق اخر عربة في قطار احلام شبابي ، رفعت يدي بالطربوش لأنزعه ولكنه أبى ان يتحرك من فوق رأسي..سحبته بقوة أكبر لكنه لم يهتز حتى ..
-"هو فيه ايه؟!!" قلتها لوالدي وأنا في لحظات ذهول فقال لي " يا ابني مينفعش تشيل الطربوش كده والا هيطلع براسك كلها معاه و هتموت"
-"يعني ايه الكلام ده.. امال اشيل الهباب ده ازاي"
-"الطربوش مش هيسيب راسك يا ابني الا لما مدة العقد تخلص و ساعتها الاختيار اختيارك اذا كنت تحب تعمل عقد جديد بطربوش أريح و فلوس و ميزات أكتر أو انك تقلع الطربوش و ترتاح"
انهمرت الدموع على وجهي وأنا أقول" طربوش جديد ايه اللي ممكن أفكر البسه بعد عشر سنين..لأ طبعاً أنا بفكر از..."
سكت فجأه عن الكلام ثم قلت.." لأ فيه حل... أنا هشوف دكتور يشوفلي حل طبي أشيل بيه الطربوش ده من على راسي بس الأكيد اني مش هسيب نفسي كل يوم في روتين الطربوش"

التسميات: , ,

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية